القائمة الرئيسية

الصفحات

الكاتب عبد الرازق الشاعر يكتب " حقائق صادمة "



كانت حانقة، وكنت لا أجد من الكلمات ما يهدئ سورتها. انتظرت بفارغ ألم حتى انتهت من حكايتها. كانت أستاذتي الجامعية قد بلغت من العمر سن الحكمة، لكن ما حدث معها كان أكبر من تجاربها جميعا. ولم تكن تجيد الدراما رغم أنها كانت تدرسها لنا باقتدار. كانت الأستاذة عزة جاب الله قد فُصلت حديثا من كلية الآداب لمجرد أنها وضعت دائرة حمراء حول مادة تخصصها أمام اسم ربة الصون والحظوة ابنة عميد كلية الآداب في ذلك الوقت. لا أكاد أنسى وجهها المحتقن وعينيها الغائرتين، وثورة لا تكاد تهدأ بين جنبيها. فقلت لها بطفولية فجة :"لو طبقنا شريعة الله، لما حدث ما نرى."


فأجابتني برد نزل عليٓ كالصاعقة :"لو كنا بوذيين، لما حدث هذا." فهل تراها أخطأت حين استشهدت ببوذا وأتباعه يا ترى؟ وهل تراها الآن حية تشاهد ما يفعله أتباع بوذا بأنصار محمد من مسلمي الروهينجا؟ ولو كانت حية وتشاهد، هل تراها تراجعت عن تصريحها الذي صدمني للغاية في مقتبل الحمية؟ ولأنني قد رأيت في سنوات الهشيم الأخيرة من أتباع محمد ما لا يمكن أن ينسب إلى ديانته، قررت تقليب صفحات التاريخ لأخرج هذا البوذا من تابوت الورق وأستنطقه لأرى إن كان أتباعه يمارسون هذا الحمق الطائفي بوازع عقائدي، أم هو الحقد الأعمى الذي يذهب بالقلوب والأبصار والدين جميعا.

جلست إلى جوار أم بوذا وهي تحدث جاريتها قبل الميلاد بأربعة قرون بما رأته حين حملت به: "رأيت في المنام فيلا أبيض له أربعة أنياب يدخل خصري الأيمن ليستقر في رحمي." ثم رأيتها بعد تسعة أشهر من الحمل جالسة تحت شجرة سدر بين قصر زوجها وقصر ذويها لتضع غلاما قال عنه راهب الجوار حين رآه: "لو قدر لهذا الطفل أن يحيا لأصبح ملكا متوجا أو قائدا متبعا." ورأيت هذا الشاب يرفل في أغلى الثياب ويمتطي أمهر الخيول فتخر أمامه جباه وتنحني قامات حتى بلغ من العمر تسعة وعشرين عاما، فإذا به يتمرد على سلطان الرغبة ويقفز فوق حاجز الطبقية، ويخرج من إطار قصره الضيق ليصافح آلام البسطاء.وعلى إثر ذلك يقرر الخروج من قصره ذات غفلة من أبيه في ثياب شحاذ بسيط، فيسأل الناس اللقمة ويطلب من الإله الحكمة. فلما يستعصي عليه التنويرسبع سنوات عجاف، يقسم أن لا يبرح مكانه حتى يمن عليه الإله بالوعي. وبعد تسعة وأربعين يوما من الوحدة، تهبط على روحه السكينة، ويعود إلى قومه محملا برسالة لم يوحي بها الإله، ولكن مصدرها بؤس الإنسان. وحين يسأله قومه :" هل عرفت الإله يا بوذا؟" يجيبهم في تواضع جم: "لم أعرف الإله، لكنني عرفت الكثير عن بؤس الإنسان." لم يناد الإله بوذا من فوق جبل، ولم يخلع الرجل نعليه، لكنه خلع أنانيته وتجرد لمواساة أخيه الإنسان. كان جوتاما بوذا يصرخ في أتباعه ناصحا: "لن يجد السلام من يحمل في قلبه مثقال ذرة من حقد." "لن توقف الكراهية عجلة الكراهية .. إنما يوقفها الحب، وتلك هي القاعدة الخالدة." لم يدع جوتاما لحرق الشيوخ وبقر بطون النساء واللهو بجماجم الأطفال في حفلات دموية صاخبة.

وبريء بوذا من أتباعه السفهاء الذين استبدلوا كلماته الخالدة بصرخات حفنة من جهلاء الكهانة. بريء بوذا بسيرته وبريء بوصاياه، وقد أمر أتباعه أن لا يتخذوا من بعده قائدا، وكأنه كان يعلم أن التحريف والتبديل سنة الجهلاء الذين لا يصبرون على حق ولا معروف. ذكرتني مواعظ بوذا بالمسيح عليه السلام حين منع أحد حوارييه من الدفاع عنه قائلا :"إن من يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون." كما تداعى إلى ذهني موقف عثمان عليه السلام حين التف حول داره ألفان من أشقياء الكوفة والبصرة يريدون قتله، فإذا به يصرف من حوله من الصحابة حتى لا تراق الدماء وتعم الفتن. وتذكرت محمدا وهو يقف على قمة جبل الإنسانية ينادي فيمن آذوه وعذبوه وقتلوا أتباعه واستحلوا محارمهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء."

برئ بوذا ممن استغلوا الأردية البرتقالية ليأمروا الناس بذبح الأطفال وحرق القرى واغتصاب النساء،

وبريء عيسى ممن رفعوا صليبه فوق محاكم تفتيش غبية ليكرهوا الناس على الدخول في دينهم أفواجا،

وبريء محمد ممن رفعوا آلاف الرايات باسمه واقتتلوا في سبيل الطاغوت. وبريئة الإنسانية ممن يقذفون وجوه المدن بالقنابل العنقودية والبراميل المتفجرة.

لو كانت أستاذتي عزة جاب الله حية، أتمنى أن تقرأ مقالي. ففيه اعتراف تأخر ثلاثة عقود بأننا لو اتبعنا أي ملة، ولو كانت وضعية، لما وصل بنا الإسفاف هذا الحد المهين. ولو اتبعنا أي شريعة، ولو كانت بوذية، لما استبد بنا الحمق وذهبت بنا الضغائن كل مذهب.

ولو كانت أستاذتي غادرت هذا الواقع الذي يزداد جهالة كل صباح، أدعو الله أن يغفر لها قدر ما علِمت وعلمتني.

تعليقات